حاسي سيتي:محمد بوعزة 
إن الحق في حرية الدين أو المعتقد في إطار منظومة حقوق الإنسان يرتبط بحرية الفرد في اعتناق ما يشاء من أفكار دينية أو غير دينيــة، فقد أشارت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في عام 1993- وهي لجنة تقوم بالإشراف على تنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية- إلى أن المقصود بالدين أو المعتقد يتمثل في “معتقدات في ماهية وجود الله، أو في عدم وجوده أو معتقدات ملحدة، بجانب الحق في عدم ممارسة أي دين أو معتقد”.
وقد عرفت حرية الدين والمعتقد تقدما ملحوظا خلال القرن العشرين حيث تم الإقرار ببعض المبادئ المشتركة الخاصة بحرية الديانة أو المعتقد، فاعترفت الأمم المتحدة بأهمية حرية الديانة أو المعتقد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948، حيث تنص المادة 18 منه على أن
” لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر، ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة”[i].
وقد تلا اعتماد هذا الإعلان محاولات عدة لوضع اتفاقية خاصة بالحق في حرية الدين والمعتقد إلا أن تلك المحاولات كلها باءت بالفشل.
كما أقر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966، بالحق في حرية الدين أو المعتقد وذلك من بين ما أقر به من حقوق وحريات.
وتنص المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أربع بنود بهذا الخصوص؛ وهي أن:
1. لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو بمفرده؛
2. لا يجوز تعريض أي أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو في حريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره؛
3. لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده، إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة، النظام العام، الصحة العامة، الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية.
4. تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام حرية الآباء، أو الأوصياء عند وجودهم، في تأمين تربية أولادهم دينيا وخلقيا وفقا لقناعاتهم الخاصة.
كما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بدون تصويت عام 1981 إعلانا بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد ، وإن كان هذا الأخير يفتقر إلى الطبيعة الإلزامية ولا يتضمن النص على آلية للإشراف على تنفيذه إلا أنه مازال يعتبر أهم تقنين معاصر لمبدأ حرية الديانة والمعتقد.
أما المغرب فقد اعتمد سنة 2011 ، دستورا جديدا يتوخى أن يكون ضامنا للحريات وخصص لها بابا كاملا ، كما تضمن اعترافا صريحا بسمو الاتفاقيات و العهود الدولية على القوانين الداخلية للبلاد[ii] ، لا سيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان.
لكن في الوقت ذاته نجد أن هذا الدستور نفسه، يدعو إلى احترام الهوية الوطنية الثابتة للمغاربة ، كما يعتمد الإسلام دينا للدولة في إطار إمارة المؤمنين .
وقد حظي هذا الموضوع باهتمام كبير مؤخرا نظرا للدور المركزي الذي بات يشغله المعطى الديني ليس فقط كآلية حاضرة في تقنين وتدبير الصراعات بين الفاعلين السياسيين، وإنما أيضا كمعطى بارز على الدوام في العلاقات الخاصة القائمة بين الأفراد والجماعات، فقد يحدث تارة أن يسخر لانتزاع حقوق ومكاسب آنية، وتارة أخرى كرد فعل، لاتهام الآخر بتوظيف “المقدس” من أجل المساس بالسلم الاجتماعي، والتوازن السائد في أنماط الإنتاج والتدبير السليم للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
إن هذه الخصوصية المحاطة بخطورة واضحة تفرض المعالجة الدستورية للمعطى الديني بنوع من التأني والمزيد من الحيطة والحذر، وهذا في الأصل هو دور الوثيقة الدستورية، فهي معنية بوضع الإطار القانوني العام الذي يؤطر القضايا المجتمعية الهامة في بعدها الشمولي، حيث تصبح البوصلة التي توجه الفلسفة والغايات التي تحكم القوانين والتشريعات التالية لها.
ان اعتبار الديباجة جزء لا يتجزأ من الدستور مع ما تتضمنه هذه الديباجة من مبادئ وقواعد قانونية مدعمة لفصول الدستور أو مكملة لها أو واضعة إطارا لبعض الفصول وخاصة تلك التي تتميز بوضع حساس كموضوع حرية الدين والمعتقد.
فقد ورد في ديباجة الدستور الجديد أن” المملكة المغربية دولة إسلامية….كما ان الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الاسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الانسانية جمعاء.”
كما جاء في الديباجة كذلك أن المملكة المغربية تلتزم ب :
-
حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الاعاقة أو اي وضع شخصي مهما كان.
-
جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب ، وفي نطاق احكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات ،مع ما تتطلبه تلك المصادقة.
ونص الفصل الاول من الدستور”…تستند الامة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الاسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد،…..”
كما نص الفصل الثالث على أن “الاسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية.” وتجدر الاشارة إلى أن مفهوم «حرية العقيدة»[iii] (liberté de religion) التي وردت في البداية في مشروع الدستور الذي قدمته اللجنة (المكلّفة بإعداد الدستور) إلى الملك تم سحبها لما هدّدت الأحزاب والجمعيات ‘‘الإسلامية’’ بتعطيل أو إيقاف عجلة البلاد عن الدوران إذا لم تسحب هذه العبارة من مشروع الدستور، فأقدمت اللجنة على شطب هذه العبارة من مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء. أما عبارة «والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية» الواردة في الفصل 3، فإنها تصبح بسرعة ملغاة بواسطة الفصول الأخرى المعروضة أعلاه، وخاصة منها الفصل الاول، حيث يـنصّ على إخضاع «الدولة»، و «التشريع»، و «الهوية»، و «الحياة العامة للأمة»، لِ «ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الاسلامي». فالمواطنون الذين لا يريدون أن يكونوا مُقَيّدين بتلك «الثوابت الجامعة» الموجودة في الدين الإسلامي ، يكون مآلهم هو أن يصبحوا مضطهدين باسم هذا الدستور
يبدو أن التنصيص على أن “الإسلام دين الدولة”، هو بمثابة تحصيل حاصل، بالنظر إلى أن شعب هذه الدولة، هو شعب مسلم دينه الإسلام، فما الجدوى إذن من هذا التنصيص؟ وهل عبثا نص المشرع على مثل هكذا نص؟
تجدر الإشارة في البداية إلى أن العديد من دساتير الدول العربية تنص على أن الإسلام دين الدولة ،بل يكاد يكون هذا النص الأكثر حضورا في مختلف الدساتير العربية والإسلامية، والمغرب باعتباره بلدا إسلاميا لا يشكل استثناء عن باقي الدول العربية والإسلامية في هذا الصدد، حيث أصبح الإسلام دين الدولة الرسمي منذ القانون الأساسي للمملكة، ثم بمقتضى باقي الدساتير المغربية المتعاقبة.
ومن ثم فإن الحرص على دسترة الإسلام كدين للدولة كان يهدف إلى تحقيق هدفين على الأقل: من جهة إثبات أن الدولة المغربية ليست علمانية، ومن جهة أخرى، التأكيد على أن الدين المرجعي للدولة هو الإسلام، وليس هو الدين الوحيد المسموح به، فإذا كانت الدولة تعترف بالإسلام كدين رسمي لها، فان الإسلام يعترف بباقي الأديان السماوية ولا ينكرها، لذلك يمكن القول أن الفصل الثالث من الدستور لا يقوم إلا بتجسيد واقع تاريخي بالنسبة للدولة المغربية، والمتمثل أساسا في الدور الديني لهذه الأخيرة، على اعتبار أن رئيس الدولة الذي يعتبر أيضا زعيما دينيا من مهامه الحرص على حماية الإسلام، ولذلك تم التنصيص على أن الإسلام هو دين الدولة. ، وهنا يجب التوضيح أن النص الدستوري استعمل عبارة ( دين الدولة ) ولم يستعمل عبارة ( دين الشعب ) أو ( دين الأمة ) ، مما يعني أنه قد تتواجد أديان أخرى يتعبد بها بعض المغاربة ، وفي هذا الإطار تندرج الديانة اليهودية التي هي ديانة لها وضعها الرسمي ولا ينافي وجودها قاعدة ( الإسلام دين الدولة ) .
غير أن هذا النص الدستوري يثير تساؤلا آخر يتمحور حول السبب في عدم اكتفاء القاعدة الدستورية في هذا النص بعبارة الإسلام دين الدولة دون إضافة أن “الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”؟
إن السبب في إضافة هذه العبارة يعود برأينا إلى،” وجود أقليات دينية فوق التراب المغربي، وهو ما دفع المشرع إلى ضمان حرياتها الدينية من خلال النص الدستوري، من أجل إرساء دعائم الاستقرار الديني والعقائدي للنظام المغربي، وذلك من خلال تحميل الدولة مسؤولية ضمان ممارسة الشؤون الدينية الفردية للمواطنين.[v]
والحرية الدينية المعترف بها من خلال هذا النص تكريس لتقليد عريق لا ينفصل عن روح الإسلام ذاته،كما أن احترام باقي الأديان فوق التراب المغربي لم يكن أبدا محل تساؤل حتى في أحلك الفترات التاريخية، لذلك يمكن القول أن دسترة عبارة: “..والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”، تجد تفسيرها في ذلك الالتزام التاريخي “لأمير المؤمنين” بضمان الحماية لأهل الكتاب.. وبالنظر إلى أن الملك أمير المؤمنين هو “حامي حمى الدين” فإن وظيفته على هذا المستوى تتحدد في حماية “عقائد” مواطني الدولة سواء كانوا مسلمين أو يهود أو مسيحيين.
لكن ألا يشكل هذا التنصيص الدستوري على أن الإسلام هو دين الدولة، عقبة في طريق الحياد اللازم لضمان حرية الأديان الأخرى؟
يبدو أن هذا المشكل غير مطروح لسببين على الأقل:
– من جهة، لأن الدولة في المغرب تعبير عن الأمة المسلمة، وأساس وجودها هو السماح للمؤمنين بممارسة شعائرهم بكل طمأنينة، وذلك من خلال ضمان حرية العبادة لباقي الأديان، وفي هذا الصدد يقول الملك الراحل الحسن الثاني في تحديده لمفهوم الحرية الدينية: إن المغرب يضمن حرية ممارسة الشؤون الدينية لأنه دولة مسلمة ودين الدولة هو الإسلام، ويضيف قائلا: إن المفهوم القانوني للنظام العام يحد من هذه الحرية، في حين أن الديانة اليهودية والمسيحية يمكن ممارستهما بكل حرية لأنهما ديانتا أهل الكتاب، فهما ديانتين ليس فقط مقبولتان من طرف الإسلام بل من الواجب على المسلمين الإيمان بأنبيائها.
– ومن جهة أخرى، فإن حياد الدولة الديني غالبا ما يسفر عن مواقف قد تبدو معادية للدين، لكن النظام المغربي، يبدو أنه عرف كيف يضمن حرية الأديان والمعتقدات الأخرى من خلال النص الدستوري، كما أنه لم يتردد في زجر كل سلوك ينحو نحو التشويش على المواطنين غير المسلمين وإقلاق راحتهم من خلال مجموعة من فصول القانون الجنائي. لذلك رغم التنصيص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، فان هذا لا يؤثر على حق باقي الأديان في ممارسة شعائرها بكل حرية، شريطة أن تكون هذه الممارسة داخل المؤسسات الدينية ودون إخلال بمقتضيات الحفاظ على النظام العام.
وفي المقابل ثمة تأويل آخر واسع وغير خاضع لأية قيود، يتم إضفاؤه على الفصل الثالث من الدستور، مؤداه أن الأمر يتعلق بكافة الأديان والمعتقدات، السماوية وغير السماوية، خصوصا وأن النص يتحدث عن ضمان حرية ممارسة الشؤون الدينية لكل واحد دون حصر أو تحديد؟
من خلال منطوق الفصل الثالث من الدستور، يمكن القول أن مسألة الحرية في المجال الديني غير مطروحة قانونيا، وبالاستناد إلى النص التشريعي فهي مكفولة دستوريا. لاسيما وأن الفصل الثالث من الدستور لا يحدد المعتقدات المقصودة، وهو ما يسمح بالافتراض أن الدولة تضمن حرية ممارسة كافة المعتقدات، لكن إلى أي حد يعتبر هذا الافتراض صحيحا؟
إن حرية العبادة تدخل في إطار حرية المعتقد، غير أن هذه الحرية لا يمكن أن تفهم بشكل مطلق في إطار دولة تعتبر الإسلام دينها الرسمي. أي أن مسألة ضمان حرية ممارسة الشؤون الدينية ليس معناه أن الدستور يضمن حرية العبادة بمفهومها العام والشامل كما يبدو لأول وهلة، بل إن الأمر يتعلق فقط “بأهل الكتاب”، أي اليهود والمسيحيين هم المشمولون فقط بهذه الحماية الدستورية في ممارسة شؤونهم الدينية، أي أن اعتبار الإسلام دين الدولة، يعني أن هذه الأخيرة تضمن فقط حرية ممارسة العقائد التي يعترف بها الدين الإسلامي. أما ما سواها من المعتقدات الدينية والمذهبية، فغير معترف بها وغير مسموح بها أيضا.
انطلاقا من هذه القراءة الأولية لمنطوق الفصل الثالث من الدستور المغربي، ووفق التحليل المشار إليه أعلاه، يجوز القول[vi]– من باب إبداء الرأي في التفسير والتأويل- أن حرية المعتقد في أوسع معانيها وأبعد حدودها كما هو منصوص عليها دستوريا، يجب أن تظل في إطار احترام كون الإسلام دين الدولة.
إننا من خلال النصوص الدستورية السابق ذكرها لسنا أمام هوية بسيطة بل أمام هوية تركيبية يتداخل فيها البعد الديني بالقومي غير أن الدين الإسلامي يبقى هو دين الدولة المغربية المجسد لإسلاميتها والعنوان الأبرز للهوية المغربية .
إن النص الدستوري لم يشر إلى وجود أديان أخرى بالمغرب من قبيل الديانة اليهودية ، فهو عند إشارته لليهود المغاربة كان بصدد الإشارة إلى روافد الهوية الوطنية : الإفريقية والعبرية والمتوسطية ، فالعبرية إشارة إلى الثقافة اليهودية لا إلى الديانة اليهودية ، غير أن ذلك لم يمنع من وجود اعتراف رسمي بالديانة اليهودية كديانة لقسم من المغاربة ، ويحظون بالترخيص والحماية لدور عبادتهم .
من هذا المنطلق ، فإن عدم التنصيص الدستوري على ديانة ما لا يعني بالضرورة أنها ديانة محظورة ، فرئيس الدولة المغربية بصفته أميرا للمؤمنين هو صاحب الاختصاص الحصري في الإشراف على الحقل الديني ، بل إن من وظائفه ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية لكل المواطنين .
مسألة اخرى تطرح للنقاش وهي أن النص الدستوري تطرق إلى إسلامية الدولة المغربية وكون الدين الإسلامي هو دين الدولة ، غير أنه لم يتطرق إلى مذهب بعينه من داخل الإسلام ، فلم تتم الإشارة دستوريا إلى عقيدة الدولة المغربية إن كانت أشعرية أم حنبلية ، ولا إلى المدرسة الفقهية للدولة المغربية إن كانت على المذهب السني المالكي أو غيره .
من هنا ، يمكن القول أن تلك العناوين الفرعية من داخل الدين الإسلامي ( العقيدة الأشعرية ، الفقه المالكي ، التصوف على طريقة ما..) ما هي إلا اختيارات سياسية للدولة المغربية وليست ثوابتا دستورية للدولة المغربية فضلا عن أن تكون ثوابتا للأمة المغربية التي هي أكبر من الدولة المغربية ، وبالتالي لا يمكن إقصاء أي توجه فكري بحجة كونه مخالفا للاختيارات السياسية للدولة ، لأن الأساس الذي يخضع له المواطنون هو الدستور والقوانين لا التوجهات السياسية للدولة ، كما أن التوجهات السياسية قابلة للتغير عند تغير مقتضياتها ، بينما الثوابت الدستورية للدولة لا تقبل التغيير إلا إن تغير الرأي العام المغربي بشكل جذري.
إن الهوية الدينية للدولة المغربية هي الإسلام ، والوحدة المذهبية السنية المالكية ليست من الثوابت الدستورية ، بل هي اختيار سياسي له ما يبرره ، غير أنه على كل حال يبقى خيارا التزمت به الدولة فصارت ملزمة به ولا يلزم به المواطنون ..لأنه إن كان الأصل أن ( لا إكراه في الدين ) فكيف نبرر للإكراه في المذهب ؟ ![vii]
إن كان هذا هو وضع الهوية الدينية للدولة المغربية ، فإن مفهوم “إمارة المؤمنين” أثار ولا يزال الكثير من الجدل بين قوى المحافظة والتحديث في المجتمع المغربي ، مما يتعين معه العودة للنص الدستوري لبسط هذا المفهوم ، خاصة وأن دستور 2011 أخرج هذا المفهوم من الغموض الذي انتابه في الدستور السابق ، كما سبق أن بين الملك في خطابه الذي مهد وضع مسودة الدستور .
جاء في الفصل 41 أن ( الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين ، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية .
يرأس الملك أمير المؤمنين المجلس العلمي الأعلى ، الذي يتولى دراسة القضايا التي تعرض عليه .
ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا ، في شأن المسائل المحالة إليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف ، ومقاصده السمحة .
تحدد اختصاصات المجلس وتأليفه وكيفيات سيره بظهير .
يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين ، والمخولة له حصريا ، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر ) .
إذن فإمارة المؤمنين مفهوم خاص بالحقل الديني وليس بالحقل المدني ، يمارس من خلاله الملك صلاحياته الدينية بواسطة ظهائر وليس بشكل اعتباطي ، مما يعني أن الالتباس بين الديني والمدني زال بعد التعديل الدستوري الاخير ، وأصبحنا أمام تمييز منهجي ومجالي بين الديني والسياسي لا بمعنى الانفصال التام ولا بمعنى التوحد المطلق .
إن مفهوم ( إمارة المؤمنين ) بالتأويل المذهبي الضيق لا يتناسب وغرض السلطة الدينية في توحيد الحقل الديني واستيعاب أوسع الشرائح الاجتماعية ، غير أن تأويل ( المؤمنين ) ب(الموحدين) من شأنه أن يجعل اليهود المغاربة و حتى المسلمين من مختلف المذاهب الإسلامية تحت عنوان (إمارة المؤمنين) .
إن كان التعديل الدستوري لسنة 2011 قد أخرج مفهوم ( إمارة المؤمنين) من مشكلة عدم التقييد المنهجي فانتقلنا للحديث عن مستويين مختلفين ( رئاسة الدولة ) و ( إمارة المؤمنين) .
بناء على ما تقدم من قراءة دستورية للهوية الدينية للمملكة المغربية ولمفهوم إمارة المؤمنين ومجال إعمالها وأدواتها ، فإننا في تحديد موقفنا من الهوية الدينية للدولة المغربية وحرية المعتقد وإمارة المؤمنين أمام اتجاهين متعارضين :
-
الاتجاه الأول : وتذهب القوى السياسية الحداثية والعلمانية إلى ضرورة تبني خيار علمنة الدولة والمجتمع وإلغاء المحددات الدينية والمذهبية وإخراج مفهوم “إمارة المؤمنين” من المجال العام ، الذي هو مجال للاشتغال السياسي المدني ..كما يؤكد هذا الاتجاه على مفهوم “الدولة المدنية ” في مقابل “الدولة الدينية” و”المواطنة” كأساس وحيد للبناء الاجتماعي والسياسي .
-
الاتجاه الثاني : وهو اتجاه القوى المحافظة في المجتمع ، حيث يرى أنه ينبغي تعزيز خيار الدولة الدينية وتفعيل مبدأ إسلامية الدولة ولو بشكل متدرج وفق منحى زمني معين ، كما يعتبر أن الوحدة الدينية والمذهبية في إطار الإسلام السني المالكي وإمارة المؤمنين متلازمتين لا يمكن التفكيك بينهما ، وهما صمام الأمام لوحدة المجتمع واستقرار السلطة السياسية بالبلاد .
إن التعديل الدستوري لسنة 2011 أقر بسمو الاتفاقيات الدولية في مجال الحريات وحقوق الإنسان على التشريعات الوطنية ، كما أن المغرب صادق على قرار أممي يقضي بحرية المعتقد .
إن المغرب المعاصر انطلق في مبادرة جديدة لإصلاح الحقل الديني المغربي، وهو ما عبرت عنه وأفصح عنه خطاب 30 أبريل 2004، وقد أبان الخطاب عن كون المبادرة لا تستهدف فقط حماية الإسلام الرسمي فقط، بل تهدف إضافة إلى ذلك، إلى تصحيح صورة الإسلام التي تأثرت كثيرا بتشويه من اتخذ العنف والتكفير منهجا للدعوة الإسلامية.
إننا لا نعتقد أن هذه المبادرة فشلت في خلق واقع جديد على مستوى الحقل الديني بالمغرب، لكننا في الوقت ذاته لا نعتقد بإمكان تجاوزها لخصوصيات الزمن العالمي المعاصر، بصعوبة تأميم الحقل الديني والتحكم في الوعي الديني للجماهير .
إن أقصى ما أفرزته هذه المبادرة : خطاب ديني رسمي موافق للخصوصية التاريخية وللعصرنة، إلى جانب تيارات فكرية مختلفة، وهو ما أبقى دائرة الجدل العميق بين الأفكار الدينية والمذهبية، وهو أمر يحتاج إلى إدارته من قبل النظام السياسي المغربي بشكل حكيم ومتوازن.
* باحث في الدراسات الدستورية والسياسي